ليس من يصنع التاريخ من يكثر الكلام، فالكلمات مهما علت لا تبني مجداً ولا ترسم خريطة على وجه الأرض. كم من دولٍ لم تهدأ حناجرها بالشعارات، لكنها ظلت تراوح مكانها، تُمسك بالهواء وتُمنّي النفس بالأحلام، التاريخ لا يكتبه من يتحدث، بل من يفعل.
التاريخ يُنصِت إلى من يمتلك القدرة على خلق واقعٍ جديد، واقعٍ يفرض نفسه على الآخرين، لا بالضجيج، بل بالفعل الصامت والواثق، فسلطة الدولة لا تُقاس بكمية المراسيم التي تُوقَّع، بل بقدرتها على فرض احترام تلك المراسيم وجعلها تتحرك فوق الأرض كنبضٍ حيّ، أمّا الورق الذي بلا قوة، فمحكوم عليه بالنسيان.
نصف قرن من الصراع.. ومن صنع الفارق؟
إذا تأملنا نصف قرنٍ من النزاع المغربي الجزائري، خصوصاً حول قضية الصحراء المغربية، سنجد أن الطرفين حاولا ترسيخ رؤيتهما وفرض “أمرٍ واقع” على الأرض. غير أنّ الزمن كشف الحقيقة
فـالمغرب كان هو من امتلك مفاتيح القوة، ونجح في أن يجعل من رؤيته واقعاً سياسياً ودبلوماسياً قائماً، بينما ظلت الجزائر أسيرة خطابٍ متكرر ودعمٍ لا يُثمر سوى مزيدٍ من الدوران في حلقة مفرغة.
المغرب.. من الدفاع إلى البناء
على بُعد أمتارٍ من حيث أعيش، تعجّ مدينة العيون بحركة استعدادٍ لا تهدأ، احتفالاتٌ بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء تتنفس من كل زاوية، تنبض بها شوارع الداخلة والسمارة وبوجدور. إنها ليست مجرد ذكرى، بل إعلانٌ متجدد لانتصار الإرادة المغربية.
نعم نجح المغرب في أن يجعل من أقاليمه الجنوبية رمزاً للتنمية والبناء، فبينما كان البعض يغرق في الشعارات، اختار المغرب أن يعمل في صمت، أن يُشيّد الطرق والموانئ والمشاريع الكبرى، أن يربط الأرض بالسماء، والإنسان بالمستقبل.
على الصعيد الدولي، لم يعد المشهد كما كان أكثر من 85 دولة سحبت اعترافها بما يُسمّى “الجمهورية الوهمية”، وأكثر من 30 دولة افتتحت قنصلياتها في مدن الصحراء المغربية.
لقد تحوّل المغرب من موقع الدفاع إلى مركز الفعل الإقليمي، يقود مشاريع استراتيجية عابرة للقارات
من أنبوب الغاز النيجيري المغربي إلى الميناء الأطلسي بالداخلة، وصولاً إلى الربط الاقتصادي مع دول الساحل
هكذا لم تعد الصحراء مجرد ملف سياسي، بل قلباً نابضاً لمغرب المستقبل، وممرّاً حيوياً نحو إفريقيا والعالم
وهذا هو الأمر الواقع الذي اعترفت به الأمم المتحدة ضمناً حين صنّفت النزاع بأنه سياسي لا قضية تصفية استعمار
الحديث عن الآخر… مؤجّل
أما الطرف الآخر، بما يحمله من إخفاقاتٍ تاريخية وأزماتٍ داخلية لم يعد الزمن يجاملها، فله حديثٌ قادم في مقالٍ لاحق… لأن التاريخ لا يرحم المتأخرين، ولا ينتظر من يكتفي بالكلام الذين يقتاتون على الشعارات.